الاثنين، 9 أغسطس 2021

اغتباط صاحب القرآن +خيركم من تعلم القرآن وعلمه

 اغتباط صاحب القرآن

حدثنا أبواليمان أنا شعيب عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلىالله عليه وسلم يقول: [ لاحسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب فهو يقوم به آناء الليل والنهار ورجل اعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار ] انفرد به البخاري من هذا الوجه واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهري ثم قال البخاري: ثنا على بن إبراهيم ثنا روح ثنا شعبة عن سليمان قال: سمعت ذكوان عن أبى هريرة أن رسول الله قال: [ لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فسمعه جار له فقال: ليتنى أوتيت مثلما أوتيت فلان فعملت مثل ما يعمل ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتنى أوتيت مثل ماأوتى فلان فعملت مثل ما يعمل ] [ ومضمون هذين الحديثين أن صاحب القرآن في غبطة وهى حسن الحال فينبغى أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه ويستحب تغبيطه بذلك يقال: غبطه يغبطه بالكسر غبطا إذا تمنى مثل ما هوفيه من النعمة وهذا بخلاف الحسد المذموم وهو تمنى زوال نعمة المحسود عنه سواء حصلت لذلك الحاسد أولا وهذا مذموم شرعا مهلك وهو أول معاصى ابليس حين حسد آدم على ما منحه الله تعالى من الكرامة والإحترام والإعظام والحسد الشرعى الممدوح هو تمنى حال مثل ذاك الذي هو على حالة سارة ولهذا قال عليه السلام: ] لا حسد إلا في اثنتين [ فذكر النعمة القاصرة وهو تلاوة القرآن آناء الليل والنهاروالنعمة المتعدية وهى نفاق المال بالليل والنهار ] كما قال تعالى { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور }

وقد روى نحو هذا من وجه آخر فقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبى بخط يده: كتب إلى أبو توبة الربيع بن نافع فكان في كتابه: حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن يزيد بن الأخنس أن رسول الله قال: [ لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل آعطاه لله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ويتبع ما فيه فيقول رجل: لوأن الله أعطانى مثل ما أعطى فلانا فأقوم به كما يقوم به ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفق ويتصدق فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به ] وقريب من هذا ما قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن محمد بن نمير ثنا عبادة بن مسلم وحدثني يونس بن حباب عن سعيد أبى البحترى الطائى عن أبي بن كبشة قال: سمعت رسول الله يقول: [ ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه فأما الثلاث التى أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم أحد مظلمة فيصبر عليها الا زاده الله بها عزا ولا يفتح عبدا باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر - وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال - إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقى فيه ربه ويصل رحمه ويعلم لله فيه حقه - قال - فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول: لو كان لى مال عملت بعمل فلان - قال - فأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغيرعلم لايتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم الله فيه حقه فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لى مال لفعلت بعمل فلان - قال - هى نيته فوزرهما فيه سواء ]

وقال أيضا: حدثنا وكيع ثنا الأعمش عن سالم بن أبى الجعد عن أبى كبشة الأنمارى قال: - قال رسول الله : [ مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله فينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله - فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لى مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل - قال: قال رسول الله - فهما في الوزر سواء ] إسناد صحيح ولله الحمد والمنة

خيركم من تعلم القرآن وعلمه

حدثنا حجاج بن منهال ثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد ابن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي قال: [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] وأقرأ أبو عبدالرحمن إمرة عثمان رضي الله عنه حتى كان الحجاج قال: وذلك الذي أقعدنى مقعدى هذا

وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى مسلم من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبدالرحمن وهو عبد الله بن حبيب السلمى رحمه الله وحدثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبدالرحمن السلمى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي : [ إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ] وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن سفيان عن علقمة عن أبى عبد الرحمن من غيرذكر سعد بن عبيدة كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه وهذا المقام مما حكم لسفيان الثوري فيه على شعبة وخطأ بندار يحيى بن سعيد في روايته ذلك عن سفيان عن علقمة عن سعد ابن عبيدة عن أبى عبدالرحمن وقال: رواه الجماعة من أصحاب سفيان بإسقاط سعد بن عبيدة ورواية سفيان أصح وفى هذا المقام المتعلق بصناعة الإسناد طول لولا الملالة لذكرناه وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك والله أعلم

والغرض أنه قال: [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل وهم الكمل في أنفسهم المكملين لغيرهم وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدى وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لاينفعون ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع كما قال تعالى

{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب } وكما قال تعالى { وهم ينهون عنه وينأون عنه } في أصح قولى المفسرين في هذا هو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا فجمعوا بين التكذيب والصد كما قال تعالى { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكمل في نفسه وأن يسعى في تكميل غيره كما قال عليه السلام [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] وكما قال تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله تعالى من تعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك مما يبتغى به وجه الله وعمل هو في نفسه صالحا وقال قولا صالحا أيضا فلا أحد أحسن حالا من هذا وقد كان أبو عبدالرحمن عبد الله بن حبيب السلمى الكوفى أحد أئمة الإسلام ومشايخهم ممن رغب في هذا المقام فقعد يعلم الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث يعلم فيه القرآن سبعين سنة رحمه الله وأثابه وآتاه ما طلبه ورامه آمين

قال البخاري: حدثنا عمرو بن عون ثنا حماد بن أبى حازم عن سهل ابن سعد قال: [ أتت النبي صلى االله عليه وسلم امرأة فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: مالي في النساء من حاجة فقال رجل: زوجنيها قال أعطها ثوبا قال: لا أجده قال: أعطها ولو خاتما من حديد فاعتل له فقال: ما معك من القرآن قال: كذا وكذا قد زوجتكها بما معك من القرآن ]

وهذا الحديث متفق على صحة إخراجه من طرق عديدة والغرض منه الذي قصده البخاري أن هذا الرجل تعلم الذي تعلمه من القرآن وأمره النبي ان يعلم تلك المرأة ويكون ذلك صداقا لها على ذلك وهذا فيه نزاع بين العلماء: هل يجوز أن يجعل صداقا ؟ أو هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؟ وهل هذا كان خاصا بذلك الرجل ؟ وما معنى قوله عليه السلام [ زوجتكها بما معك من القرآن ] أي بسبب ما معك كما قاله أحمد بن حنبل: نكرمك بذلك أو بعوض ما معك وهذا أقوى لقوله في صحيح مسلم فعلمها وهذا هو الذي أراده البخاري ههنا وتحرير باقى الخلاف مذكور في باب النكاح والإجارات وبالله المستعان

القراءة عن ظهر قلب

إنما أورد البخاري في هذه الترجمة حديث أبى حازم عن سهل ابن سعد الحديث الذي تقدم الآن وفيه [ أنه عليه السلام قال للرجل: فما معك من القرآن ؟ قال: معى سورة كذا وسورة كذا لسور عدها قال: اتقرأهن عن ظهر قلب ؟ قال: نعم اذهب قد ملكتها بما معك من القرآن ] وهذه الترجمة من البخاري رحمه الله مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل والله أعلم ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة كما صرح به غير واحد من السلف وكرهوا أن يمضى على الرجل يوم لاينظرفى مصحفه واستدلوا على أفضلية التلاوة في المصحف بما رواه الإمام العلم أبو عبيد رحمه الله في كتابه فضائل القرآن: حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن معاوية بن يحيى عن سليم بن مسلم عن عبد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي قال: قال النبي : [ فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظهرا كفضل الفريضة على النافلة ] وهذا الإسناد فيه ضعف فإن معاوية ابن يحيى هذا هو الصدفى أو الأطرابلسي وأيا ما كان فهو ضعيف وقال الثوري عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس عن عمر أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه وقال حماد أيضا عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبى ليلى عن ابن مسعود أنه كان إذا اجتمع اليه إخوانه نشروا المصحف فقرأ أو فسر لهم إسناد صحيح وقال حماد بن سلمة عن حجاج بن أرطاة عن ثوير بن أبى فاخته عن ابن عمر قال: إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ وقال الأعمش عن خيثمة: دخلت على ابن عمرو وهو يقرأ في المصحف فقال: هذا جزئى الذي أقرأ به الليلة

فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير فالاستثبات أولى والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن لأن الكتابة لا تدل على الأداء كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على ألفاظ القرآن فأما عند العجز عما يلقن فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية فاذا قرأ في المصحف والحالة هذه فلا حرج عليه ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه فقد قال الإمام أبوعبيد: حدثني هشام بن إسماعيل الدمشقى عن محمد بن شعيب عن الأوزاعى أن رجلا صحبهم في سفر قال: فحدثنا حديثا ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله قال: [ إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل ] وحدثنا حفص بن أبى غياث عن الشيبانى عن بكير بن الأخنس قال كان يقال إذا قرأ الأعجمى والذي لايقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل وقال بعض العلماء: المدار في هذه المسئلة على الخشوع فإن كان الخشوع أكثر عند القرا ة عن ظهر قلب فهو أفضل وإن كان عند النطر في المصحف أكثر فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى لأنها أثبت وتمتاز بالنظر إلى المصحف قال الشيخ أبو زكريا النواوى رحمه الله في التبيان: والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفضيل

تنبيه إن كان البخاري رحمه الله أراد بذكره حديث سهل الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهرقلب أفضل منها في المصحف ففيه نظر لأنها قضية عين فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله منه فلا يدل على أن التلاوة عن ظهرقلب أفضل مطلقا في حق من يحسن إذ لو دل على هذا لكان ذكر حال رسول الله وتلاوته عن ظهر قلب - لأنه أمى لايدرك الكتابة - أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده

الثاني: إن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السورعن ظهر قلب ليمكنه تعليمها لزوجته وليس المراد ههنا أن هذا أفضل من التلاوة نظرا ولا عدمه والله سبحانه وتعالى أعلم

استذكار القرآن وتعاهده

حدثنا عبد الله بن يوسف أنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال: [ إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت ]

هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك به وقال الإمام أحمد: ثنا عبدالرزاق أنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله : [ مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار كمثل رجل له ابل فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقالها ذهبت فكذلك صاحب القرآن ] أخرجاه قاله ابن الجوزى في جامع المسانيد وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به حدثنا محمد بن عرعرة ثنا شعبة عن منصور عن أبى وائل عن عبد الله قال: قال النبي : [ بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسى واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ] تابعه بشر هو ابن محمد السختيانى عن ابن المبارك عن شعبة وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبى داود الطيالسي عن شعبة به وقال: حسن صحيح

وأخرجه النسائي من رواية شعبة وحدثنا عثمان بن جرير عن منصور مثله وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير به وستأتى رواية البخاري له عن أبى نعيم عن سفيان الثوري عن منصور به والنسائي من رواية ابن عيينه عن منصور به فقد رواه هؤلاء عن منصور به مرفوعا في رواية هولاء كلهم وقد رواه النسائي عن قتيبة عن حماد بن زيد عن منصور عن أبى وائل عن عبد الله موقوفا وهذا غريب وفي مسند أبى يعلى فإنما هو نسى بالتخفيف وتابعه ابن جريج عن عبدة عن شقيق قال: سمعت عبد الله قال: سمعت النبي وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن جريج به ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جارة عن عبدة وهو ابن ابى لبابة حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبى موسى عن النبي قال: [ تعاهدوا القرآن فوالذي نفسى بيده لهو أشد تفصيا من الابل في عقلها ]

وهكذا رواه مسلم عن أبى كريب محمد بن العلاء وعبد الله بن براد الأشعري كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به

وقال الامام أحمد ثنا على بن إسحاق أنا عبد الله بن المبارك أنا موسى بن على سمعت أبى يقول: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله : [ تعلموا كتاب الله وتعاهدوا وتغنوا به فوالذي نفسى بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل ]

ومضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده لئلا يعرضه حافظة للنسيان فإن ذلك خطأ كبير نسأل الله العافية منه فإنه قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد ثنا خالد عن يزيد بن أبى زياد عن عيسى بن فايد عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه من ذلك الغل إلا العدل وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقى الله يوم يلقاه وهو أجذم ] وهكذا رواه جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن يزيد بن أبى زياد كما رواه خالد بن عبد الله وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلاء عن ابن ادريس عن يزيد بن أبى زياد عن عيسى بن فايد عن سعد بن عبادة عن النبي بقصة نسيان القرآن ولم يذكر الرجل المبهم وكذا رواه أبو بكر بن عياش عن يزيد عن أبى زياد وقد رواه سعيد عن زيد ووهم في إسناده ورواه وكيع عن أصحابه عن يزيد عن عيسى بن فايد عن النبي مرسلا وقد رواه الإمام أحمد في مسند عبادة بن الصامت فقال: ثنا عبد الصمد ثنا عبدالعزيز بن مسلم ثنا يزيد بن أبى زياد عن عيسى بن فايد عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله : [ ما من أميرعشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقى الله القيامة أجذم ] وكذا رواه أبو عوانة عن يزيد بن أبى زياد ففيه اختلاف لكن هذا في باب الترهيب مقبول والله أعلم لاسيما ان كان له شاهد من آخر كما قال أبو عبيد: ثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : [ عرضت على أجور أمتي حتى القذاة والعبرة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوليتها رجل فنسيها ] قال ابن جريج: وحدثت عن سلمان الفارسى قال: قال رسول الله : [ من أكبر ذنوب توافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم فنسيها ] وقد روى أبوداود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبى رواد عن ابن جريج عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : [ عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ]

قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وذاكرت به البخاري فاستغربه

وحكى الوابلي عن عبد الله بن عبدالرحمن الدارمى أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن مالك قلت: وقد رواه محمد بن يزيد الآدمى عن ابن أبى ( رواد ) عن ابن جريج عن الزهري عن أنس عن النبي به فالله أعلم وقد أدخل بعض المفسرين هذاالمعنى في قوله تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وهذا الذي قاله هذا وان لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه ولهذا قال عليه السلام: [ تعاهدوا القرآن ] وفى لفظ [ استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ] التقصى التخلص: يقال تفصى فلان من البلية إذا تخلص منها تقصى النوى من الثمرة إذا تخلص منها أي أن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير عقال

وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال عبدال له يعنى ابن مسعود - إنى لأمقت القارىء أن أراه سمينا نسيا للقرآن وحديث عبد الله بن المبارك عن عبدالعزيز بن أبى داود قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه لأن الله تعالى يقول { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب ولهذا قال اسحاق ابن راهويه وغيره: يكره للرجل أن يمرعليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن كما أنه يكره له أن يقرأه في أقل من ثلاثة أيام كما سيأتى هذا حيث يذكره البخاري بعد هذا وكان الأليق أن يتبعه هذا الباب ولكن ذكر بعد هذا قوله:

القراءة على الدابة

حدثنا حجاج أنا شعبة أنا أبو إياس قال: سمعت عبد الله ابن مغفل رضي الله عنه قال: [ رأيت رسول الله يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح ] وهذا الحديث قد خرجه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن شعبة عن أبى إياس وهو معاوية بن قرة به وهذا أيضا له تعلق بما تقدم من القرآن وتلاوته سفرا وحضرا ولا يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارىء في الطريق وقد نقله ابن أبى داود عن أبى الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق وقد روى عن عمر بن عبدالعزيز أنه أذن في ذلك وعن الإمام مالك أنه كره ذلك كما قال ابن أبى داود: حدثني أبو الربيع أنا ابن وهب قال: سألت مالكا عن الرجل يصلى من آخر الليل فخرج الىالمسجد وقد بقى من السورة التى كان يقرأ منها شىء فقال: ما أعلم القراءة تكون في الطريق وقال الشعبى: تكره قراءة القرآن في ثلاثة مواضع في الحمام وفى الحشوش وفىبيت الرحى وهى تدور وخالفه القراءة في الحمام كثير من السلف أنها لا تكره وهو مذهب مالك والشافعى وإبراهيم النخعى وغيرهم وروى ابن أبى داود عن على ابن أبى طالب أنه كره ذلك ونقله ابن المذر عن أبى وائل شقيق بن سلمة والشعبى والحسن البصرى ومكحول وقبيصة بن ذؤيب وهو رواية عن إبراهيم النخعى

ويحكى عن أبى حنيفة رحمه الله أن القراءة في الحمام تكره وأما القراءة في الحش فكراهتها ظاهره ولو قبل بتحريم ذلك صيانة لشرف القرآن لكان مذهبا وأما القراءة في بيت الرحى وهى تدور فلئلا يعلو غير القرآن عليه والحق يعلو ولا يعلى والله أعلم

تعلم الصبيان القرآن

حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم قال: وقال ابن عباس: توفى رسول الله وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم حدثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا هشيم أنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال [ جمعت المحكم في عهد النبي فقلت له: وما المحكم ؟ قال المفصل ] انفرد بإخراجه البخاري وفيه دلالة على جواز تعلم الصبيان القرآن لأن ابن عباس أخبرعن سنه حين موت رسول الله وقد كان جمع المفصل وهو من الحجرات كما تقدم ذلك وعمره إذ ذاك عشر سنين

وقد روى البخاري أنه قال: توفى رسول الله وأنا مختون وكانوا لايختنون حتى يحتلم فيحتمل أنه احتلم لعشر سنين جمعا بين هذه الرواية وتلك ويحتمل أنه تجوز في هذه الرواية بذكر العشر وترك مازاد عليها من الكسر والله أعلم

وعلى كل تقدير ففيه دلالة على جواز تعليم القرآن في الصبا وهو ظاهر بل قد يكون مستحبا أو واجبا لأن الصبى إذا تعلم القرآن بلغ وهويعرف ما يصلى به وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرا وأشد علوقا بخاطره وأرسخ وأثبت كما هو المعهود من حال الناس وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبى في ابتداء عمره قليلا للعب ثم توفر همته على القراءة لئلا يلزم أولا بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب وكره بعضهم تعليمه القرآن وهو لايعقل ما يقال له ولكن يترك حتى إذا عقل وميزعلم قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه واستحب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يلقن خمس آيات رويناه عنه بسند جيد

نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا ؟

 

فأما نقط المصحف وشكله فيقال أن أول من أمر به عبد الملك ابن مروان + اغتباط صاحب القرآن

 

فصل

فأما نقط المصحف وشكله فيقال أن أول من أمر به عبد الملك ابن مروان فتصدى لذلك الحجاج وهو بواسط فأمر الحسن البصرى ويحيى ابن يعمر ففعلا ذلك ويقال أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدولى وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحف قد نقطه له يحيى ابن يعمر والله أعلم

وأما كتابة الأعشار على الحواشي فينسب إلى الحجاج أيضا وقيل: بل أول من فعله المأمون وحكى أبوعمرو الدانى عن ابن مسعود أنه كره التعشير في المصحف وكان يحكه وكره مجاهد ذلك أيضا وقال مالك: لا بأس به بالحبر فأما بالألوان المصبغة فلا واكره تعداد آي السور في أولها في المصاحف الأمهات فأما ما يتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسا وقال قتادة: بدأوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وقال يحيى بن كثير أول ما أحدثوا النقط وقال: هو نور له ثم أحدثوا النقط عند آخر الاى ثم أحدثوا الفواتح والخواتم ورأى إبراهيم النخعى فاتحة سورة كذا فأمر بمحوها وقال: قال ابن مسعود: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه قال أبو عمرو الدانى: ثم قد أطبق المسلمون في ذلك في سائر الآفاق على جواز ذلك في الأمهات وغيرها

معارضة جبريل النبي القرآن

ثم قال البخاري رحمه الله كان جبريل يعرض القرآن على النبي قال مسروق عن فاطمه عن عائشة: أسر إلى رسول الله [ أن جبريل كان يعارضنى بالقرآن كل سنة وإنه عارضنى العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلى ] هكذا ذكره معلقا وقد أسند في مواضع أخر ثم قال: ثنا يحيى بن قزعة ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: [ كان النبي أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهررمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله القرآق فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ] وهذا الحديث متفق عليه وقد تقدم الكلام عليه في أول الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد والله أعلم

ثم قال: ثنا خالد بن يزيد ثنا أبو بكر عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة قال: [ كان يعرض على النبي القرآن كل عام مره فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض ]

ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن أبى بكر وهو ابن عياش عن أبى حصين واسمه عثمان بن عاصم به والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى ليبقى ما بقى ويذهب ما نسخ توكيدا واستثباتا وحفظا ولهذا عارضه في السنة الأخيرة من عمره عليه السلام على جبريل مرتين وعارضه به جبريل كذلك ولهذا فهم عليه السلام اقتراب أجله

وعثمان رضي الله عنه جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة رضيالله عنه وأرضاه وخص بذلك رمضان من بين الشهور لأن ابتداء الإيحاء كان فيه ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه ومن ثم كثر اجتهاد الأئمة في تلاوة القرآن كما تقدم ذكرنا لذلك

القراء من أصحاب النبي

حدثنا حفص بن عمر ثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبد الله ابن عمر وعبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه سمعت النبي يقول: [ خذوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب رضي الله عنهم ]

وقد أخرجه البخاري في المناقب في غير موضع ومسلم والنسائي من حديث الأعمش بن أبى وائل عن مسروق به فهؤلاء أربعة: اثنان من المهاجرين الأولين عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة وقد كان سالم هذا من سادات المسلمين وكان يؤم الناس قبل مقدم النبي المدينة واثنان من الأنصار معاذ بن جبل وأبي بن كعب وهما سيدان كبيران رضي الله عنهم أجمعين

ثم قال: حدثنا عمر بن حفص ثنا أبى ثنا الأعمش ثنا شقيق بن سلمة قال: خطبنا عبد الله فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله بضعا وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي أنى من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادا يقول غير ذلك

حدثنا محمد بن كثير ثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: [ كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت فقال: قرأت على رسول الله فقال أحسنت ووجد منه ريح الخمر فقال: أتجترئ أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر ؟ فجلده الحد ]

حدثنا عمر بن حفص ثنا أبى ثنا الأعمش ثنا مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين انزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه

وهذا كله حق وصدق وهو من أخبار الرجل عما يعلم من نفسه مما قد يجهله غيره فيجوز ذلك للحاجة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف كما قال لصاحب مصر { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } ويكفيه مدحا وثناء قول رسول الله [ استقرئوا القرآن من أربعة ] فبدأ به وقال أبو عبيد ثنا مصعب بن المقدام عن سفيان عن الأعمش عن ابراهيم عن عمرو عن النبي : [ من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد ] وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبى معاوية عن الأعمش به مطولا وفيه قصة وأخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبى معاوية به وصححه الدارقطنى وقد ذكرته في مسند عمر وفى مسند الإمام أحمد أيضا عن أبى هريرة أن رسول الله قال: [ من أحب يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد ] وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعو كان يعرف بذلك

ثم قال البخاري: ثنا حفص بن عمر ثنا همام ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ورواه مسلم من حديث همام ثم قال البخاري تابعه الفضل عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس بن مالك حدثنا معلى بن أسد ثنا عبد الله بن المثنى ثنا ثابت وثمامة عن أنس بن مالك قال: مات النبي ولم يجمع القرآن غير أربعة أبوالدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قال: ونحن ورثناه

فهذا الحديث ظاهره أنه لم يجمع القرآن من الصحابة سوى هؤلاء الأربعة فقط وليس هذا هكذا بل الذي لايشك فيه أنه جمعه غير واحد من المهاجرين أيضا ولعل مراده لم يجمع القرآن من الأنصار وهم أبى ابن كعب في الرواية الأولى المتفق عليها وفى الثانية من أفراد البخاري أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وكلهم مشهورون إلا أبا زيد هذا فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث وقد اختلف في اسمه فقال الواقدي وأسمه قيس بن السكن بن قيس بن ذعور بن حرام بن جندب ابن عامر غنم بن عدى بن النجار وقال ابن نمير: اسمه سعد بن عبيدابن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية من الأوس وقيل: هما اثنان جمعا القرآن حكاه أبوعمر بن عبدالبر وهذا بعيد وقول الواقدى أصح لأنه خزرجى لأن أنسا قال: نحن ورثناه وهم من الخزرج وفى الألفاظ: وكان أحد عمومتي وقال قتادة عن أنس قال افتخر الحيان الأوس والخزرج فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبى عامر ومنا الذي حمته الدبر عاصم بن ثابت ومنا الذي اهتز لموته العرش سعد بن معاذ ومنا من اجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله : أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد فهذا كله يدل على صحة قول الواقدي وقد شهد أبو زيد هذا - بدرا فيما ذكره غير واحد وقال موسى بن عقبة عن الزهري قتل أبوزيد قيس بن السكن يوم جسر أبى عبيد على رأس خمس عشرة سنة من الهجرة

والدليل على أن من المهاجرين من جمع القرآن أن الصديق رضي الله عنه قدمه رسول الله في مرضه إماما على المهاجرين والأنصار مع أنه قال: [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] فلولا أنه كان اقرأهم لكتاب الله لما قدمه عليهم هذا مضمون ما قرره الشيخ أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرى وقد بسطت تقريرذلك في مسند الشيخين رضي الله عنهما

ومنهم عثمان بن عفان قد قرأه في ركعة كما سنذكره وعلى بن أبى طالب يقال أنه جمعه على ترتيب ما أنزل وقد قدمنا هذا

ومنهم عبد الله بن مسعود وقد تقدم عنه أنه قال: ما من آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم أنزلت ولو علمت أحدا أعلم منى بكتاب الله تبلغه المطى لذهبت إليه

ومنهم سالم مولى أبى حذيفة وكان من السادات النجباء والأئمة النقباء وقد قتل يوم اليمامة شهيدا

ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب بن عم الرسول وترجمان القرآن وقد تقدم عن مجاهد أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقفه عند كل آية وأسأله عنها

ومنهم عبد الله بن عمرو كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج عن عبد الله بن أبى مليكة عن يحيى بن حكيم بن صفوان عن عبد الله بن عمرو قال: [ جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ ذلك رسول الله فقال: اقرأه في شهر ] وذكر تمام الحديث

ثم قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل أنا يحيى عن سفيان عن حبيب ابن أبى ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: على أقضانا وأبى أقرؤنا وإنا لندع من لحن أبى وأبى يقول أخذته من في رسول الله فلا أتركه لشىء قال الله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وهذا يدل على أن الرجل الكبير قد يقول الشىء يظنه صوابا وهو خطأ في نفس الأمر ولهذا قال الامام مالك: ما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا قول صاحب هذا القبر أي فكله مقبول صلوات الله وسلامه عليه

ثم ذكر البخاري فضل فاتحة الكتاب وغيرها وذكرنا في كل سورة عندها ليكون ذلك أنسب ثم قال: نزول السكينة والملائكة عند القراءة

وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد بن محمد بن ابراهيم عن الحضير قال: [ بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده اذ جالت الفرس فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف وكان ابنه يحيىقريبا منها فأشفق أن تصيبه فلمااجتره رفع رأسه إلى السماء حتى يراها فلما أصبح حدث النبي فقال: اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير قال: فأشفقت أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسى فانصرفت إليه فرفعت رأسي الى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال وتدرى ما ذاك قال: لا قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم ]

قال ابن الهاد: وحدثني هذا الحديث عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدرى عن أسيد بن الحضير

هكذا أورد البخاري هذا الحديث معلقا وفيه انقطاع في الرواية الأولى فان محمدا بن ابراهيم بن الحارث التيمى المدني تابعى صغير لم يدرك أسيدا لانه مات سنة عشرين وصلى عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ثم فيه غرابة من حيث انه قال: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد ولم أره بسند متصل عن الليث بذلك إلا ما ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الأطراف أن يحيى بن عبد الله بن بكير رواه عن الليث كذلك

وقد رواه الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن فقال: وحدثنا عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمى عن أسيد بن حضير فذكر الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن الهاد: وحدثني عبد الله بن خباب عن أبى سعيد بن أسيد بن حضير بهذا الحديث

وقد رواه النسائي في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن عبدالحكم عن شعيب بن الليث وعن على بن محمد بن على عن داود بن منصور كلاهما عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبى هلال عن يزيدابن عبد الله - وهو ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبى سعيد عن أسيد به ورواه يحيى بن بكير عن الليث كذلك أيضا فجمع بين الإسنادين ورواه في المناقب عن أحمد بن سعيد الرباطى عن يعقوب بن ابراهيم عن أبيه عن يزيد ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبى سعيد أن أسيد ابن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث ولم يقل عن أسيد ولكن ظاهره أنه عنه والله أعلم

وقال أبو عبيد: حدثني عبد الله بن صالح عن الليث عن ابن شهاب عن أبى كعب بن مالك عن أسيد بن حضير أنه كان يقرأ على ظهر بيته يقرأ القرآن وهو حسن الصوت ثم ذكر مثل هذا الحديث أو نحوه

وحدثنا قبيصة عن حماد بن سلمة عن ثابت البنانى عن عبدالرحمن ابن أبى ليلى عن أسيد بن حضير قال: [ قلت يا رسول الله بينما أنا اقرأ البارحة بسورة فلما انتهيت إلى آخرها سمعت وجبة من خلفى حتى ظننت أن فرسى تطلق فقال رسول : اقرأ أبا عتيك مرتين قال: فالتفت فرأيت الىأمثال المصابيح ما بين السماء والأرض فقال رسول الله : إقرأ أبا عتيك فقال: والله ما استطعت أن أمضى فقال: تلك الملائكة تنزلت لقراءة القرآن أما أنك لو مضيت لرأيت الأعاجيب ]

وقال أبو داود الطيالسي:

ثنا شعبة عن أبى إسحق سمع البراء يقول: [ بينما رجل يقرأ سورة الكهف ليلة إذ رأى دابته تركض - أو قال فرسه يركض - فنظر فإذا مثل الضبابة أو مثل الغمامة فذكر ذلك لرسول الله فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن - أو تنزلت على القرآن ]

وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة

والظاهر أن هذا هو أسيد بن الحضير رضي الله عنه فهذا يتعلق بصناعة الإسناد وهذا من أغرب تعليقات البخاري رحمه الله ثم سياقه ظاهر فيما ترجم عليه من نزول السكينة والملائكة عند القراءة وقد اتفق نحو هذا الذي وقع لأسيد بن الخضير لثابت بن قيس بن شماس كما قال أبو عبيد: ثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه [ أن رسول الله قيل له: ألم تر ثابت بن قيس ابن شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال: فلعله قرأ سورة البقرة قال فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة ]

وفى الحديث المشهور الصحيح: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا تنزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده

رواه مسلم عن أبى هريرة ولهذا قال الله تعالى: { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } جاء في بعض التفاسيرأن الملائكة تشهده وقد جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله : [ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر فيعرج إليه الذين نزلوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ]

من قال لم يترك النبي إلا ما بين الدفتين

حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان عن عبدالعزيز بن رفيع قال: [ دخلت وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل: أترك النبي من شىء ؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين ]

تفرد به البخاري ومعناه أنه ما ترك مالا ولا شيئا يورث عنه كما قال عمرو بن الحارث أخو جويرية: ما ترك رسول الله دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا وفى حديث أبى الدرداء: إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه بحظ وافر ولهذا قا ل ابن عباس: وإنما ترك ما بين الدفتين يعنى القرآن والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة أي تابعة له والمقصود الأعظم كتاب الله تعالى كما قال تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية

فالأنبياء عليهم السلام لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها وإنما خلقوا للآخرة يدعون اليها ويرغبون فيها ولهذا قال رسول الله : [ مما تركنا فهو صدقة ] وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبوبكر الصديق رضي الله عنه لما سئل ميراث رسول الله فأخبر عنه بذلك ووافقه على نقله عنه عليه السلام غير واحد من الصحابة منهم عمر وعثمان وعلى والعباس وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة وغيرهم وهذا ابن عباس يقوله أيضا عنه عليه السلام رضي الله عنهم أجمعين

فضل القرآن على سائر الكلام

حدثنا هدبة بن خالد أبو خالد ثنا همام ( ثنا قتادة ) ثنا أنس بن مالك عن أبى موسى رضي الله عنهما عن النبي قال: [ مثل الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب والذي لايقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل الفاجر الذي لايقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرولاريح لها ]

وهكذا رواه في مواضع أخر مع بقية الجماعة من طرق عن قتادة به ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث أن طيب الرائحة دار مع القرآن وجودا وعدما فدل على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر ثم قال: ثنا مسدد ثنا يحيى عن سفيان حدثني عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: [ انما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لى إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود فقال: من يعمل لى من نصف النهار إلى العصر ؟ فعملت النصارى ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا: لا قال: فذاك فضلى أوتيته من شئت ]

تفرد به من هذا الوجه ومناسبته للترجمة أن هذه الأمة مع قصر مدتها فضلت الأمم الماضية مع طول مدتها كما قال تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس }

وفى المسند والسنن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ] وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم القرآن الذي شرفه الله على كل كتاب أنزله وجعله مهيمنا عليه وناسخا له وخاتما له لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة وهذا القرآن نزل بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به وبمن أنزل عليه فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة وأعظم الأمم المتقدمة هم اليهود والنصارى فاليهود استعملهم الله من لدن موسى إلى زمان عيسى والنصارى من ثم إلى أن بعث محمدا ثم استعمل أمته إلى قيام الساعة وهو المشبه بآخر النهار وأعطى المتقدمين قيراطا قيراطا وأعطى هؤلاء قيراطين ضعفى ما أعطى أولئك فقالوا أي ربنا ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا ؟ فقال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا: لا قال: فذاك فضلى - أي الزائد على ما أعطيتكم أوتيه من اشاء كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم * لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }

الوصاة بكتاب الله

حدثنا محمد بن يوسف ثنا مالك بن مغول ثنا طلحة هو ابن مصرف [ سألت عبد الله بن أبى أوفى: أوصى النبي ؟ قال: لا قال: قلت فكيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص ؟ قال: أوصى بكتاب الله تعالى ]

وقد رواه في مواضع أخر مع بقية الجماعة إلا أبا داود من طرق عن مالك ابن مغول به وهذانظير ما تقدم عن ابن عباس أنه ما ترك إلا ما بين الدفتين وذلك أن الناس كتب عليهم الوصية في أموالهم كما قال تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } وأما هو فلم يترك شيئا يورث عنه وأما له صدقة جارية من بعده فلم يحتج إلى وصية في ذلك ولم يوص الى خليفة يكون بعده على التنصيص لأن الأمر كان ظاهرا من إشاراته وايماءاته إلى الصديق ولهذا لما هم بالوصية إلى أبى بكر ثم عدل عن ذلك قال: [ يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ] وكان كذلك وإنما أوصى الناس باتباع كلام الله

من لم يتغن بالقرآن

وقول الله تعالى { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }

حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله ؟ [ لم يأذن الله لشىء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ] وقال صاحب له: يريد يجهر به فرد من هذا الوجه ثم رواه عن على بن عبد الله بن المدينى عن سفيان بن عيينة عن الزهري به قال سفيان: تفسيره يستغني به

وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينه به ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشىء كاستماعه لقراءة نبى يجهر بقراءته ويحسنها وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية في ذلك وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم كما قال تعالى { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } الآية ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم ومنهم من فسرالاذن ههنا بالأمر والأول أولى لقوله: [ ما أذن الله لشىء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ] أي يجهر والاذن الاستماع لدلالة السياق عليه وكما قال تعالى { إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت } أي استمعت لربها وحقت أي وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه فالاذن ههنا هو الاستماع ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيدعن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله : [ لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلي قينته ]

وقول سفيان بن عيينة أن المراد بالتغنى به فان أرادأنه يستغنى به عن الدنيا وهو الظاهرمن كلامه الذي تابعه عليه أبوعبيدالقاسم بن سلام وغيره فخلاف الظاهر من مراد الحديث لأنه قد فسر بعض رواته بالجهر وهوتحسين القراءة والتحزين بها قال حرملة سمعت ابن عيينة يقول معناه يستغنى به فقال لى الشافعى ليس هو هكذا ولو كان هكذا لكان يتغانى إنما هو يتحزن ويترنم به قال حرملة وسمعت ابن وهب يقول: يترنم به وهكذا نقل المزنى والربيع عن الشافعى رحمه الله

وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } فيه نظر لأن هذه الآية ذكرت ردا على الذين سألو آيات تدل على صدقه حيث قال { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } الآية ومعنى ذلك أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أمي { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } أي وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين فأين هذا من التغنى بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ؟ فعلى كل تقدير تصدير الباب بهذه الآية فيه نظر

فصل: فى إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن قباث بن رزين عن على بن رباح اللخمى عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن قال: [ تعلموا كتاب الله واقتنوه - قال: وحسبت أنه قال وتغنوا به - فوالذي نفسى بيده لهو اشد تفلتا من المخاض العقل ] وحدثنا عبد الله بن صالح عن موسى بن على عن أبيه عن عقبة عن رسول الله مثل ذلك إلا أنه قال: [ واقتنوه وتغنوا به ] ولم يشك

وهكذا رواه النسائي في كتاب فضائل القرآن من حديث موسى بن على عن أبيه به ومن حديث عبد الله بن يزيد المقرى عن قباث بن رزين عن على ابن رباح عن عقبة - وفى بعض ألفاظه: [ خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا وذكرالحديث ففيه دلالة على السلام على القارىء ] وقال أبو عبيد: ثنا أبو اليمان عن أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم المهاجر ابن حبيب قال: قال رسول الله : [ يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار وتغنوه وتقنوه واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ] وهذا مرسل ثم قال أبو عبيد: قوله تغنوه أي اجعلوه غناءكم من الفقر ولاتعدوا الإقلال معه فقرا وقوله وتقنوه يقول: اقتنوه كما تقتنوا الأموال اجعلوه ما لكم

وقال أبوعبيد: حدثني هشام بن عمار بن يحيى بن حمرة عن الأوزاعي قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر عن فضالة بن عبيد عن النبي قال: [ لله أشد أذنا الى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ]

قال أبو عبيد: هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول عن إسماعيل عبيد الل ه عن مولى فضالة عن فضالة وهكذا رواه ابن ماجة عن راشد سعيد بن أبى راشد عن الوليد عن الأوزاعى عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبي : [ لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرأن من صاحب القينة إلى قينته ]

قال أبو عبيد: يعنى الاستماع وقوله في الحديث الاخر [ ما أذن الله لشىء ] أي ما استمع

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا محمد بن حميد ثنا سلمة بن الفضل ثنا عبد الله بن عبدالرحمن بن أبى مليكة حدثنا القاسم بن محمد حدثني السائب قال: [ قال لى سعد: يا ابن أخى هل قرأت القرآن ؟ قلت: نعم قال: غن به فإنى سمعت رسول الله يقول: غنوا بالقرآن ليس منا من لم يغن بالقرآن وابكوا فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا ]

وقد روى أبو داود من حديث الليث عن عبد الله بن أبى مليكة عن عبد الله بن أبى نهيك عن سعد بن أبى وقاص قال: قال رسول الله : [ إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكو فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ] وفى الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه والله أعلم

وقال أبو داود: ثنا عبد الأعلى بن حماد ثنا عبدالجبار بن الورد قال: [ سمعت ابن أبى مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبى زيد: مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه فإذا رجل رث البيت رث الهيئة ( فانتسبنا له فقال: تجار كسبة ) فسمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] قال: فقلت لابن أبى مليكة يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال: يحسنه ما استطاع تفرد به أبو داود فقد فهم من هذا أن السلف رضي الله عنهم إنما فهموا من التغنى بالقرآن إنما هو تحسين الصوت به وتحزينه كما قال الأئمة رحمهم الله ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود حيث قال: ثنا عثمان بن أبى شيبة ثنا جرير عن الأعمش عن طلحة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال قال رسول الله : [ زينوا القرآن بأصواتكم ]

وأخرجه النسائي وأبن ماجة من حديث شعبة عن طلحة وهذا اسناد جيد وقد وثق النسائي وابن حبان عبدالرحمن بن عوسجة هذا ونقل الأزدي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: سألت عنه بالمدينة فلم يحمدونه

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث [ زينوا القرآن بأصواتكم ] قال أبو عبيد: وانما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله في الألحان المبتدعة فلهذا نهاه أن يحدث به ( قلت ): ثم إن شعبة رحمه الله روى الحديث متوكلا على الله كما روى له وولو ترك كل حديث يتأوله مبطل لترك من السنة شيء كثير بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة من القرآن وحملوها على محاملها الشرعية المرادة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله والمراد تحسين الصوت بالقرآن تطريبه وتحزينه والتخشع به كما رواه الحافظ الكبير تقى بن مخلد رحمه الله حيث قال: ثنا أحمد بن ابراهيم عن أبى موسى عن أبيه قال: [ قال لى رسول الله ذات يوم: يا أبا موسى لو رأيتنى وأنا أستمع قراءتك البارحة قلت أما والله لو علمت آنك تسمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرا ]

رواه مسلم من حديث طلحة به وزاد [ لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ] وسيأتى هذا في - بابه حيث يذكره البخاري والغرض أن أبا موسى قال: لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا فدل على جواز تعاطى ذلك وتكلفه وقد كان أبو موسى كما قال عليه السلام: قد أعطى صوتا حسنا - كما سأذكره إن شاء الله - مع خشية تامة ورقة أهل اليمن فدل على أن هذامن الأمور الشرعية قال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أبى سلمة قال: كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى فيقرأ عنده قال أبو عبيد: ثنا سليمان التيمى أو نبئت عنه ثنا أبو عثمان النهدى كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت أنى لم أسمع صوت صنج قط ولايربط قط ولاشيئا قط أحسن من صوته

وقال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم حدثني حنظلة بن أبى سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت: [ أبطأت على رسول الله ليلة بعدالعشاء ثم جئت فقال: أين كنت ؟ قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك مثل قراءته وصوته من أحد قالت: فقام فقمت معه حتى استمع له ثم التفت إلى فقال: هذا سالم مولي أبى حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا ] إسناد جيد وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: [ سمعت رسول الله يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه وفي بعض ألفاظه فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } كاد قلبي أن يطير وكان جبير لما سمع هذا بعد مشركا على دين قومه وإنما كان قدم في فداء الأساري بعد بدر وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع القلب كما قال قال أبو عبيد: ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن طاوس قال: أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله وحدثنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه وعن الحسن بن مسلم عن طاوس قال: سئل رسول الله أي الناس أحسن صوتا بالقرآن ؟ فقال: الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله ]

وقد روى هذا متصلا من وجه آخر فقال ابن ماجه حدثنا بشر بن معاذ الضرير ثنا عبد الله بن جعفر المدينى ثنا ابراهيم بن اسماعيل بن مجمع عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله : [ ان من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ] ولكن عبد الله بن جعفر هذا - وهو والد على بن المدينى - وشيخه ضعيفان والله أعلم والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والإنقياد للطاعة فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائى فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم عبيد القاسم بن سلام رحمه الله حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن حصين بن مالك الفزارى قال سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : [ اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر وسيجىء قوم من بعدى بالقرآن يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لايجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ]

وحدثنا يزيد عن شريك عن أبى اليقظان عثمان بن عمير زاذان أبي عمر عن عليم قال: [ كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي قال يزيد لا أعلمه الا قال عابس الغفارى فرأى الناس يخرجون في الطاعون قال: ما هولاء ؟ قال يفرون من الطاعون فقال يا طاعون خذني فقالوا أتتمنى الموت وقد سمعت رسول الله يقول: لايتمنين أحدكم الموت فقال: إنى أبادر خصالا سمعت رسول الله يتخوفهن على أمته بيع الحكم والاستخفاف بالدم وقطيعة الرحم وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بافقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء وذكر خلتين آخرتين ] وحدثنا يعقوب بن إبراهيم عن ليث بن أبى سليم عن عثمان بن عمير عن زاذان عن عابس الغفارى عن النبي مثل ذلك أو نحوه وحدثنا يعقوب عن ابراهيم عن الأعمش عن رجل عن أنس أنه سمع رجلا يقرأ القرآن بهذه الألحان التى أحدث الناس فأنكر ذلك ونهى عنه. وهذه طرق حسنة

باب الترهيب

وهذا يدل على أنه محذور كبير وهو قراءة القرآن بالألحان التى يسلك بها مذاهب الغناء وقد نص الأئمة رحمهم الله على النهى عنه فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا فقد اتفق العلماء على تحريمه والله أعلم

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن معمر ثنا روح ثنا عبيدالله بن الأخنس عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] ثم قال: إنما ذكرنا هذا لتبيين الاختلاف على ابن أبى مليكة فيه فرواه عبدالجبار بن الورد عنه عن ابن أبى مليكة عن أبى لبابة ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبى نهيك عن سعد ورواه عسل بن سفيان عنه عن عائشة ورواه نافع مولى ابن عمر عنه عن ابن الزبير

اغتباط صاحب القرآن